سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقالوا} أي: الكفار في إنكار البعث: {إن هي} أي: الحياة {إلا حياتنا الدنيا} لا حياة بعدها، {وما نحن بمبعوثين}، قال جل جلاله: {ولو ترى إذ وُفقوا على ربهم}، كناية عن حبسهم للسؤال والتوبيخ، أو: وقفوا على قضاء ربهم بين عباده، وعرفوه حق التعريف، قال لهم الحق جل جلاله: {أليس هذا} الذي كنتم تُنكرونه، {بالحق قالوا بلى وربنا} إنه لحق، ولكنا كنا قومًا ضالين، وهو إقرار مؤكد باليمين، لانجلاء الأمر غاية الجلاء، قال تعالى لهم: {فذوقوا} أي: باشروا {العذاب بما كنتم تكفرون} أي: بسبب كفركم.
{قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله}، حيث فاتهم النعيم، واستوجبوا العذاب المقيم، والمراد بلقاء الله: البعث وما يتبعه. فاستمروا على التكذيب {حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة} أي: فجأة {قالوا يا حسرتنا} أي: يا هلكتنا {على ما فرطنا} أي: قصَّرنا {فيها} أي: في الحياة الدنيا، أو في الساعة، أي: في شأنها والاستعداد لها، {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم}، كناية عن تحمل الذنوب، لأن العادة حمل الأثقال على الظهور، وقيل: أنهم يحملونها حقيقة، وقد رُوِي: أن الكافر يركبه عمله، بعد أن يتمثل له في أقبح صورة، وأن المؤمن يركب عمله، بعد أن يتصور له في أحسن صورة. قال تعالى في شأن الكفار: {ألا ساء ما يزرون} أي: بئس شيئًا يَزِرُونَهُ ويرتكبونه في الدنيا وزرهم هذا، الذي يتحملونه على ظهورهم يوم القيامة.
وسبب هذا: الركون إلى دار الغرور ونيسان دار الخلود، ولذلك قال تعالى بإثره: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} أي: وما أعمالها إلا لعب ولهو، تُلهي الناس وتشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقية، وما مدة بقائها مع ما يعقبها من الفناء إلاَّ كمدة اللعب واللهو، إذ لا طائل تحته لمن لم يعمر أوقاتها بطاعة ربه، {وللدار الآخرة خير للذين يتقون}؛ لدوامها وخلوص نعيمها وصفاء لذاتها، {أفلا تعقلون} أيّ الأمرين خير، هل دار الخراب والفناء، أو دار النعيم والبقاء، وفي قوله: {للذين يتقون}: تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين كله لعب ولهو.
الإشارة: إذا كمل نور العقل حصل لصاحبه التمييز بن الحق والباطل، وبين الضار والنافع، فنظر بعين اعتباره إلى الدنيا، فوجدها ذاهبة فانية، ونظر إلى الآخرة، فرآها مقبلة باقية دائمة، فصدف عن الدنيا مُوليًا، وأعرض عن زهرتها مدبرًا، وأقبل بكليته إلى مولاه، غائبًا عن كل ما سواه، فجعل الموت وما بعده نصب عينيه، وخلف الدنيا وراء ظهره أو تحت قدميه. وفي الحِكم: (لو أشرق نور اليقين في قلبك، لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت الدنيا، وكسفَةُ الفناء ظاهرة عليها) وقال بعض الحكماء: (لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والأخرة من طين يبقى، لاختار العاقل ما يبقى على ما يفنى، ولا سيما والأمر بالعكس، الدنيا من طين يفنى؛ والآخرة من ذهب يبقى). فلا يختار هذه الدار إلا من لا عقل له أصلاً. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «الدُّنيا دَارُ مَن لا دَار لَه، وَمَالُ مَن لا مَالَ لَهُ، لَهَا يَجَمعُ مَن لاَ عَقل لَهُ، وعلَيها يُعَادى مَن لا عِلم عِنده» أو كما قال عليه الصلاة والسلام.


قلت: {قد} للتحقيق، وإنه ضمير الشأن، وقرأ نافع: {يُحزن}، بضم الياء حيث وقع، إلا قوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبيَاء: 103] والباقون: بفتح الياء، وفيه لغتان: حزن يحزُن، كنصر ينصر، وأحزن يحزِن. والأول أشهر. ومن قرأ: {يُكذّبُونَك} بالتشديد؛ فمعناه: لا يعتقدون كذبك، وإنما هم يجحدون الحق مع علمهم به، ومن قرأ بالتخفيف فمعناه: لا يجدونك كاذبًا، يقال: أكذبت الرجل إذا وجدته كاذبًا، وقيل: معناهما واحد، يقال: كذّب فلانٌ فلانًا، وأكذبه، بمعنى واحد، وفاعل {جاءك}: مضمر، أي: نبأ أو بيان، وقيل: الجار والمجرور. وجواب {فإن استطعت}: محذوف، أي: فافعل.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون} أي: الكفار في جانبك؛ من أنك شاعر أو كاهن أو مجنون أو كاذب،. {فإنهم لا يُكذبونك} في الحقيقة، لجزمهم بصحة نبوتك، ولكنهم يجحدون بآيات الله، حسدًا وخوفًا على زوال الشرف من يدهم: نزلت في أبي جهل، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا لاَ نُكَذِّبُكَ، ولكِن نُكذِّبُ بِمَا جئتَ بِهِ» وقال الأخنَسُ بن شُرَيق: والله إن محمدًا لصادق، ولكني أحسده الشرف. ووضع {الظالمين} موضع المضمر؛ للدلالة على أنهم ظلموا لجحودهم، أو جحدوا لتمرنهم على الظلم.
ثم سلاَّه عن ذلك، فقال: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأُوذوا} أي: صبروا على تكذيبهم وأذاهم، {حتى أتاهم نصرنا}، فاصبر كما صبروا حتى يأتيك نصرنا كما أتاهم، وفيه إيماء بوعد النصر للصابرين، ولذلك قيل: الصبر عنوان الظفر. {ولا مبدل لكلمات الله} السابقة بنصر الصابرين، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [الصافات: 171، 172]، {ولقد جاءك من نبأ المرسلين} أي: من قصصهم، وما كابدوا من قومهم حتى نصرهم الله فتأنس بهم وانتظر نصرنا.
{وإن كان كَبُر} أي: عظم وشق {عليك إعراضهم} عنك وعن الإيمان بما جئت به، {فإن استطعت أن تبتغي نفقًا} أي: سريًا {في الأرض} فتدخل فيه لتطلع لهم آية، {أو سُلَّما في السماء} لترتقي فيه {فتأتيهم بآية} حتى يعاينوها فافعل، ولكن الأمر بيدي، فإنما أنت نذير.
قال البيضاوي: المقصود: بيان حرصه البالغ على إسلام قومه، وأنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها؛ رجاء إسلامهم، {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} أي: لو شاء الله جمعهم على الهدى لوفقهم للإيمان حتى يُؤمنوا، ولكن لم تتعلق به مشيئته، وفيه حجة على القدرية. أو: لو شاء الله لأظهر لهم أية تلجئهم إلى الإيمان، لكن لم يفعل؛ لخروجه عن الحكمة، {فلا تكونن من الجاهلين} أي: من الذين يحرصون على ما لم تجر به المقادير، أي: دم على عدم كونك منهم ولا تقارب حالهم بشدة التحسر. اهـ.
وقال في نوادر الأصول: إن الخطاب به تربية له، وترقيةُ من حال إلى حال، كما يُربَّى أهل التقريب ويُنقلُون من ترك الاختيار، فيما ظاهرُه بِرٌ وقربة. اهـ.
قلت: تشديد الخطاب على قدر علو المقام، كما هو معلوم من الأب الشفيق أو الشيخ الناصح، وقد قال لنوح عليه السلام: {إِنّيَ أَعِظُكِ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هُود: 46]. وهذا الخطاب أشد لعلو مقامه صلى الله عليه وسلم.
الإشارة: كل ما سُلِّيت به الرسل تسَّلى به الأولياء؛ لأنهم ورثتهم الخاصة، وكل ما أُمرت به الرسل تؤمر به الأولياء، من الصبر وعدم الحرص، فليس من شأن الدعاة إلى الله الحرص على الناس، ولا الحزن على من أدبر عنهم أو أنكر، بل هم يزرعون حكمة التذكير في أرض القلوب، وينظرون ما ينبت الله فيها، اقتداءً بما أُمر به الرسول عليه الصلاة والسلام، وما تخلق به، فمن أصول الطريقة: الإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار، والرجوع إلى الله في السراء والضراء. والله تعالى أعلم.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {إنما يستجيب} لك، ويُجيب دعوتك إلى الإيمان {الذين يسمعون} سماع تفهم وتدبر، وهو من كان قبله حيًا، وأما الكفار فهم موتى لا يسمعون ولا يفقهون، {والموتى}، وهم الكفار الذين ماتت أرواحهم بالجهل حتى ماتوا حسًا، {يبعثهم الله}، فيظهر لهم حينئذٍ الحق، ويسمعون حين لا ينفع الإيمان، أو يبعثهم الله في الدنيا بالهداية، أو الموتى حقيقة حسًا، يبعثهم الله للحساب، {ثم إليه يُرجعون} للجزاء.
الإشارة: إنما يستجيب لدعوة الخصوصية، ويُجيبون الدعاة إلى السير لشهود عظمة الربوبية، الذين سبقت لهم العناية، وأحيا اللهُ قلوبهم بالهداية، فيسمعون بسمع القلوب والأرواح، ويتَرقَّون من حضرة عالم الأشباح إلى حضرة عالم الأسرار والأرواح؛ والموتى بالغفلة والجهل يبعثهم الله ببركة صُحبة أهل الله فَتهُبُ عليهم نفحات الهداية؛ لِما سبق لهم من سر العناية، ثم إليه يُرجعون فيتنعمون في حضرة الشهود، في مقعد صدقٍ عند الملك الودود.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9